الوعي الجمهوريشعر وأدب
قصيدة البالة .. ترنيمة المغترب اليمني في الماضي والحاضر
اليمن الجمهوري
رائعة شاعر اليمن الكبير/ مطهر الإرياني ألحان وغناء علي عبدالله السمة.. ترجمه حقيقية لما يعانيه المغترب اليمني قديما وحديثا…
عندما تضيق بالإنسان ظروف العيش تضيق به رحابة الزمان والمكان، وعندما يعجز الوطن عن توفير لقمة الخبز اليابسة لأبنائه يصبح الرحيل هو الخيار المتاح إلى جانب الجنون أو الانتحار.. وبالحديث عن الرحيل يتلوث الأفق الساطع بصور الأسى الدامية وتحتجب شمس النهار خلف ركام مبكيات الخطوب.. ومع ذلك لنا أن نسأل.. طالما ظل الرحيل خيار اليمنيين وطوق نجاتهم الأوحد فما الذي اختلف بين الأمس واليوم؟..
في الواقع لا شيء سوى المزيد من السوء يضاف إلى رصيد المهاجر اليمني الهائم على وجهه في جدب رحلة العذاب المتواصلة.. رحلة البحث عن وطن يضمن لقاطنه سد الرمق باليسير من الحلال.. غير أنه بالأمس كان يحمل غربته وعذابات واقعة المر على ظهره أينما رحل لقاء بصيص أمل بلقمة عيش كريمة إما في البر الأفريقي (البحر) أو في الشرق الأسيوي ورغم ذلك كان يجد إلى جانب المعاناة الأليمة بعضاً مما يحفظ ماء الوجه في تلك الديار بينما في المقابل أضحى المغترب اليمني اليوم يهان ويذل ويستعبد في دول الجوار وهذا بالنسبة لحال المهاجرين بالطرق الرسمية طبعاً أما من هم دون ذلك فيقتلون ويحرقون ويدفنون أحياء في رمال الحدود..
فبين غربة الماضي والحاضر ثمة ملحمة شعرية بديعة خطتها أنامل الشاعر الكبير مطهر علي الإرياني تستوقفنا على حقيقة مشاهد الآهات والدموع وتعود بذاكرتنا الملطخة بالسواد إلى مطلع القرن المنصرم حيث لم يبق بيت يمني إلا وخرج منه مهاجر إلى الحبشة فمن البعض من عاد ظافراً بزوجة وأولاد ومنهم من لم يعد إلى اليوم..
تجنباً للإطالة دعونا نلج مباشرة في صلب الحديث عن قصيدة (البالة) التي سيشاركنا سبر أغوارها بالتأكيد شاعرنا الكبير مطهر الإرياني وبصوت الفنان الراحل علي عبدالله السمه دعوا للبداية فرصة اختيار شكلها النغمي الملائم:
البالة والليلة البال ما للنسمة السارية..
هبَّت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية..
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية
تنطلق هذه الخواطر العابقة برائحة الذكرى من مهجة مهاجر استقر به المقام في بلاد الحبش ويتضح هذا جلياً من حديثه عن (الشرق) حيث تقع اليمن المشهورة بزراعة أشجار الكاذي التي تلف بين أوراقها ما يسمى بـ (القبوة) وهي زهرة ذات رائحة جميلة وتضعها الصبايا بجوار خدودهن طلباً لرائحتها العطرة..
والليلة العيد وانا من بلادي بعيد..
ما في فؤادي لطوفان الحزن من مزيد
قلبي بوادي بنا وابين ووادي زبيد..
هايم وجسمي أسير الغربة القاسية
هكذا يتذكر المهاجر أهله وأحبته في ليلة العيد فتعصف به أمواج الأسى ويذوب شوقاً ويشتعل حنيناً للعودة إلى اليمن وهو غريب وبعيد عن دياره حيث يقيم مرغماً في الحبشة التي لم يتبق له فيها إلا الجسم فقط هذا من جانبه أما المرأة فقد نظمت هي الأخرى أغان تندب فيها حظها التعيس وتدعي على الحبشة بالويل والثبور زاعمة بأنها سبب الفرقة والبعاد ويتداعى الحزن بعد هذه اللفتة الذي وصل أبلغ مدى الألم فلا
مزيد بعد هذا الحزن الذي سماه الشاعر بـ«طوفان الأسى»
ويظهر التداعي هنا كون تلك اللحظة مرتبطة بابتهاجات
وأفراح العيد وعلاقتها القوية بمخيلة الطفولة وذكرياتها
الجميلة بين دفء الأهل والأصدقاء ومن خلال سباقات
تتجسد فيها الوحدة للجغرافية للوطن الواحد ..
ونواصل المشوار لنأتي على مقطع له شيء من الخصوصية في حياة اليمنيين على درب شرح أسباب الرحيل..
خرجت انا من بلادي في زمان الفنا..
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
وماتوا اهلي ومن حظ النكد عشت انا..
عشت ازرع الأرض واحصد روحي الذاوية
وعلى لسان النازح البعيد الذي مات أهله في زمان (الفنا) -كما كان الناس يؤرخون وقتها فيقولون حدث كذا في سنة الفنا الفلاني- يندب الإرياني سوء الطالع لأنه بقي على قيد الحياة فهو لقسوة ما يعانيه كغيره من اليمنيين يعتبر استمرار حياته عقاباً له ليكد ويكدح في زراعة الأرض بينما يذهب المحصول للطغاة.. لذلك لا نستغرب أن يأتي قراره بالغربة والنزوح خلف أخيه الذي سبقه إلى الحبشة..
ذكرت اخي كان تاجر أين ما جا فرش..
جَوْا عسكر الجن شَلُّوا ما معه من بُقَش
بكَّر غبش.. أين رايح؟ قال أرض الحبش..
وسار واليوم قالوا حالته ناهية
وتخبرنا عبارة (أين ما جا فرش) أن شقيق هذا النازح كان تاجراً بسيطاً ليس له دكاناً ولكنه يحمل بضاعته المتواضعة على ظهره وأينما وجد المكان مناسباً بسطها على الأرض للبيع.. وجوا عسكر الجن إشارة إلى عكفي الإمام أحمد الذي كان يلقب بـ (أحمد يا جناهـ) وقد نهبوا ما معه من رأس مال فلم يجد أمامه سوى الرحيل باتجاه الحبشة التي جاءت الأخبار منها لتؤكد لأهله بأن حالته ناهية أي حسنة ومقبولة..
بكَّرت مثله مهاجر والظفر في البكر..
وكان زادي مع اللقمة ريالين حجر
وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر..
والبن للتاجر المحظوظ والطاغية
لقد اتخذ الشقيق المقيم قرار الرحيل هو الآخر وسلك طريق البحر ليتلقفه على الساحل السماسرة الذين يقومون بتهريب النازحين مقابل حفنة من النقود وبأساليب بالغة القسوة تصل حد شحنهم بين الجلود أو داخل البراميل كسلع تجارية بعد ابتزازهم كل ما يملكون..
بحثت عن شغل في الدكة وميناء عصب..
وفي الطرق والمباني ما وجدت الطلب
شكيت لاخواني البلوى وطول التعب..
فقالوا البحر.. قلت البحر واساعية
وفي هذه المقطوعة يلخص لنا الشاعر معاناة المهاجر عقب وصوله إلى الحبشة وما يلاقيه من قسوة الحال وانعدام فرص العمل مما يضطره إلى الشكوى على إخوانه المغتربين اليمنيين والذين ينصحوه بدورهم بالعمل في البحر فيقبل بالمشورة ويقول البحر البحر أيتها الساعية الشراعية الصغيرة.. ويستمر به حال النكد إلى أن يأتي فيقول:
وعشت في البحر عامل خمستعشر سنة..
في مركب اجريكي اعور حازق الكبتنة
وسوَّد الفحم جلدي مثلما المدخنة..
وطفت كم يا بَلَوِّد أرضها قاصية
وهنا نجده يعود ليخبرنا عن المدة التي قضاها عاملاً في البحر على ظهر مركب إغريقي (يوناني) حازق الكبتنة أي ربانه شديد وشرس في التعامل وهذا حال اليمنيين الذين كانوا يتجرعون مرارة الاضطهاد من قبل كباتنة البواخر التي يضطرهم الفقر والطفر للعمل عليها حيث يتم تكليفهم بأقسى ما فيها من الأعمال كحمل الأثقال وتموين الباخرة بالفحم حتى تسود جلودهم كما تسود مدخنة الباخرة..
مثل الطيور القواطع طفت كل الجزر..
غويت لي ما غويت لوما كرهت السفر
واخترت (بر الدناكل) متَّجر بالحصر..
من حي لاحي يا مركب بلا سارية
والمقصود ببر الدناكل الأرض التي تسكنها قبائل الدنكل جنوب السودان وهذا يعكس العمق الذي وصله المهاجر اليمني في تغربه حيث يذهب إلى مضارب القبائل البدائية لبيع الحصير الذي يبنون منه بيوتهم ويفترشونه داخلها ويتنقل من حي إلى آخر وهو في حالة تيه وضياع كسفينة ليس لها سارية ولا شراع..
غريب في الشاطئ الغربي بجسمه نزل..
والروح في الشاطئ الشرقي وقلبه رحل
يا ليت والبحر الاحمر ضاق والا وصل..
جسور تمتد عبر الضفة الثانية
وفي هذه الجزئية توضيح للمكان الذي يشتاق منه المهاجر لبلاده فهو في الشاطئ الغربي للبحر الأحمر واليمن في الشاطئ الشرقي.. ونلاحظه كيف يطلق لأمانيه العنان مترجياً لو أن البحر يضيق ليقطعه عائداً إلى أرضه أو يمتد جسوراً من ضفته الغربية إلى ضفته الشرقية حيث بلاده وأحبابه..
من كان مثلي غريب الدار ماله مقر..
فما عليه إن بكى وابكى الحجر والشجر
إبكي لك ابكي وصب الدمع مثل المطر..
ومن دم القلب خَلِّي دمعتك جارية
وبالتأكيد وسط مشاعر الحزن والأسى تجاه ما يلاقيه من المتاعب ليس على المغترب لوم ولا عتب إن بكى وابكى معه الجماد وقد جرت العادة على أن يعبر اليمنيون عن شدة البكاء والنحيب بقولهم (فلان يبكي يبكِّي الشجر)..
غنَّيت في غربتي (يا الله لا هنتنا)..
ومزَّق الشوق روحي في لهيب الضنا
راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا..
يا جنَّتي يا ملاذي يا امي الغالية
نعم (يا الله لا هنتنا).. هكذا كان يردد المهاجرون اليمنيون في الحبشة هذه الكلمات وهي ضمن موال معروف يؤدى بكلمات تقول مما تقول:
يا الله لا هنتنا بين الحبش وحدنا..
نشتي نروِّح لنا بلادنا الغالية
وهذا هو الوزن الأصلي الذي بنى عليه شاعرنا مطهر الإرياني قصيدته (البالة) والتي خلص في مسك ختامها إلى تأكيد مقولة الحكيم اليماني علي ابن زايد الشهيرة (عز القبيلي بلاده.. ولو تجرَّع وباها)..
هذه هي قصيدة البالة التي ترجمت بجدارة ومصداقية مأساوية الغربة
لليمنيين أيام الإمامة ولعل الأهم فيها والذي حولها إلى ظاهرة فنية
لائقه بالإجادة والدراسة هو إجادتها فنيا وغناء ولحنا من الفنان اليمني
الكبير المرحوم علي عبدالله السمه الذي اتقن بصوته الشجي تقاسيم
حزنها واشبع بأوتاره الشجن الساري في كل بيت ومقطع وشب
في كلماتها روح الدلالة المفعمة والحنين.
ــــــــــــــــــــــــــ
#التعليق على بعض المفردات
قلبي بوادي «بنا» و«أبين» ووادي «زبيد»
وادي بنا :
واد مشهور في اليمن ينبع من المرتفعات الواقعة
بالقرب من يربم ، وتتصل به عدة أودية ، من أهمها : ( وادي المسقاة )،
ووادي دمت ، ووادي حسان ، ووادي الصبية ، تبلغ مساحة
حوضه 5900 كم2 ، ويصب في خليج عدن إلى الشرق من مدينة عدن .
أبين :
محافظة من محافظات الجمهورية اليمنية كانت في
وقت في وقت قول القصيدة تحت حكم الإستعمار البريطاني
ضمن حنوب اليمن المحتل
وادي زبيد :
هو واد مشهور في اليمن وهو ثاني وادي بعد ( وادي مور )
في المساحة ، تبلغ مساحته 4500 كم2 وهو دائم الجريان ، ويبلغ
طوله 250 كم ، ويصب في غرب مدينة زبيد .
*******
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
المقصود به تلك السنين التي انشر فيها وباء الجدري الذي حصد
الكثير ، ولا زلنا في الريف اليمني تؤرخ بتلك الأيام نقول : سنة الجدري
وأيام الجدري ومن يقرأ رحلة القاضي محمد محمود الزبيري من
تعز إلى صنعا في تلك الأيام سيرى مشهدا رهيبا
*****
( ذكرت أخي كان تاجر أينما جا فرش )
كالباعة المتجولين
*****
( جو عسكر الجن شلوا ما معه من بقش )
عسكر الجن :
جنود الإمام
شلوا : نهبوا
بقش : مفردها بقشة ، وهي العملة النقدية المعدنية المتداولة
في ذلك الوقت
********
( بكرت مثله مهاجر والظفر في البكر )
الظَفَرْ : النجاح والفوز
البُكَر : جمع بُكْرََة وهو وقت الصباح الأول
******
( وكان زادي من اللقمة ريالين حجر ) اللُقْمَة : مجموع من الرغيف يأخذها المسافر على ظهره
داخل ردائه
ريالين حجر : هي العملة النقدية الفضية الخالصة التي كان
الناس يتداولونها في بيعهم وشرائهم وتجاراتهم وهو الريال
الذي كان يسمى ولا يزال الناس يسمونه بالريال الفرنسي أو
الفرنصي وهو بالحقيقة ليس فرنسي بل هو نمساوي
وأسمه الحقيقي ( ماريا تريزا ) أما اسم ( الريال الحجر ) فهو
اسم محلي ريفي
********
( وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر )
ساعية : سفينة
*****
( بحثت عن شغل في الدكة وداخل «عصب» ) عَصَبْ : هي مينا على البحر الأحمر يقع حاليا في إرتيريا
وكان يتبع في ذلك الحبشة التي هي بدورها كانت تتبع
إيطاليا وبريطانيا
******
فقالوا: البحر، قلت: البحر واسعية
وا ساعية : كلمتين من منادى وحرف نداء ومعناهما عزمنا على
خوض البحر للبحث عم عمل أو شغل
******
( وعشت في البحر عامل خمسة عشر سنة ) عَامِلْ : أعتقد أن الكلمة معدلة لأن العامل كان يطلق على الحاكم التنفيذي
وهو ما يعرف اليوم بالمحافظ ، وكان لكل منطقة في ذلك الوقت حاكمان
حاكم تنفيذي لضبط الأمن وحياة الناس ، وحاكم قضائي لتنفيذ الأحكام
الشرعية ، أما الاسم الدارج للشخص الذي يبحث عن عمل كان اسمه
( شاقي ) وأعتقد لا زال هذا الاسم باقي
******
( في مركب ( اجريكي ) اعور حازق الكبتنة )
اجريكي : هو شخص يحمل الجنسية اليونانية وهو هنا صاحب السفينة
******
( وطفت كم يا بلوِّد أرضها قاصيه )
كم يا بَلَوِد : كم : خبرية للتعظيم والتهويل
بَلَوِد : بتشديد الواو مع الكسر والمقصود بلاد كثيرة
*****
( «غنيت في غربتي «يا الله لا هنتنا» ) يا ألله لا هنتنا : أهزوجة من أهازيج الفلاحين
******
( يا جنتي يا ملاذي يا أمي الغالية )
أمي الغالية : بالضبط كما قال الفنان ابو بكر سالم بالفقيه في وقتنا هذا
( أمي اليمن )
******
وستبقى اليمن الجمهوري أمنا ، وسنبقى نحن أبناءها الأوفياء رغما عن أنف
أعداء بلادنا الغالية مهما كان اسمهم العدائي