الرئيسيةفنون وترراث شعبي
“البن اليمني” رشفة النصر
علي الضبيبي
في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، كان البرتغاليون يجوبون السواحل الغربية لليمن، وعندما رست إحدى سفنهم بالقرب من قرية يمنية متكئة على الشاطئ، نزلت مجموعة من البحارة إلى البر متجهة إلى بيت ومسجد أبيض صغير في طرف القرية، وهناك استقبلهم شيخ جليل تحت سقيفة من النخل وضيفهم على قهوة.
هذا الشيخ هو الفقيه الصوفي علي بن عمر الشاذلي، وهو أول من شرب القهوة في اليمن، كما تقول الروايات والبرتغاليين الذين ضيفهم، في بيته، هم أول من ذاق طعم القهوة من الأوروبيين. ومع مرور الزمن تحولت تلك السقيفة إلى أكبر سوق عالمي للبُن، أو ما بات يعرف بـ”موكا كوفي” (ميناء المخاء).
“قهوة البُن” اليمنية ، لا تمنح عشاقها النشاط والحيوية فقط، ولكن أيضاً توقظ فيهم الروح وتبعث المزاج والكيف. ولعل قائد جيوش سليمان القانوني، أخطأ التقدير، في نهاية القرن الـ16 عندما انكسرت جيوشه على أبواب “فيينا”، وفي حوزته 500 كيس من القهوة، كان مصطفى باشا جلبها من اليمن، ليشربها لاحقاً، مع جنوده خلال احتفالات النصر، لكن خطته فشلت وخسر المعركة!
كان على جنود السلطان أن يشربوا قهوتهم أولاً!
لم تكن القهوة معروفة لدى جيش الامبراطورية النمساوية، الذي صد التُرك وكسرهم، على بُعد 80 كلم من العاصمة، وإلا لما أحرقوا أطناناً من البُن المطحون، ورموها في نهر “الدانوب”.
مئات الأكياس والمعدات التي تركها الجيش المهزوم، وقفل عائداً إلى اسطنبول، ورائحة البُن المحروق وراءه والقهوة المسكوبة في النهر تفوح في سماء جيوش الامبراطورية المنتصرة.
أحد جنود النمسا، الذي وقعت يده على بضعة أرطال من البُن، والأخرى على أسير من الأتراك، دفعه الفضول ليسأل الأسير، عن قيمة هذه المادة، وهما يستنشقان رائحة البُن المهدورة تفوح وكيف يتم تجهيزها، فأنجز له الأسير المهمة، ثم أعطاه فنجاناً من القهوة العربية. ومن لحظتها افتتح هذا الجندي أول مقهى في “فيينا”. ومن هناك، من مدينة الإمبراطورة ماريا تريزا وعاصمتها الأثيرة، انطلقت رحلة القهوة اليمنية، إلى بقاع أوروبا والعالم، ولكن، ويا للأسف، تحت اسم: القهوة التركية.
كيف انتقلت حكاية هذا المشروب العجيب من قدح في يد ولي وفقيه صوفي فقير في أقاصي اليمن، إلى شراب مفضل في أيدي الملوك والبحارة وقادة جيوش الإمبراطوريات العظيمة؟!
بعدما أجهزت حملات محمد علي باشا على الوهابية في الدرعية ومكة، عام 1818 اتجه الجيش المصري جنوباً وطمر السهل التهامي حتى وصل إلى المخاء، ليشرب القهوة اليمنية هناك محتفلاً بنصره المظفر.
وعندما قرر خليل باشا، العودة إلى مصر، تم تسليم ميناء المخاء إلى المهدي عبدالله إمام اليمن، مقابل 3 آلاف قنطار من البُن يسوقها الإمام سنوياً، إلى مطبخ حضرة سلطان الزمان محمد علي باشا، سلطان مصر. وحصلت مفاوضات طويلة بين القاهرة وصنعاء، بشأن قهوة السلطان، كشرط لا بد منه، للانسحاب والتسليم. وعندما قبل إمام اليمن ذلك الشرط أخذت الكمية تقل مع مرور الأعوام، فوجه سلطان مصر وكيله على الحجاز أحمد باشا يكن، بأن يوصل هذا الإنذار إلى إمام صنعاء، قائلاً: “لقد أعطيته بدل البُن بلاداً واسعة في نظير المقدار من البُن المتفق عليه”. (3 آلاف قنطار من البُن، أي ما يعادل 135000 كلم).